الأزمة السودانية- تداخلات إقليمية ودولية وتطلعات سودانية للحل

المؤلف: أحمد حسين آدم08.12.2025
الأزمة السودانية- تداخلات إقليمية ودولية وتطلعات سودانية للحل

بدايةً، يؤمن كاتب هذه السطور إيماناً راسخاً بأن الحل للأزمة السياسية السودانية المتفاقمة، والذي يهدف إلى القطيعة مع الماضي وتحقيق الاستقرار الدائم، يكمن في الحلول السودانية الخالصة. بعبارة أخرى، يجب على السودانيين وحدهم، دون تدخل من أي طرف آخر، أن يتزعموا زمام المبادرة ويمتلكوا الحل لأزمتهم ومستقبل وطنهم، لذا فإن توحيد الصف السوداني وفقاً لميثاق سياسي ودستوري واجتماعي جديد ومحكم، يُعتبر أمراً بالغ الأهمية لحل الأزمة وإنجاح المساعي الحميدة الرامية إلى إيجاد مخرج استراتيجي لها.

في المقابل، يجب علينا أيضاً أن نتحلى بالواقعية والموضوعية، فالأزمة السودانية متشابكة ولها تداعيات إقليمية ودولية واضحة. على سبيل المثال، لا بد من أخذ العلم بعشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي في الماضي، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فيما يتعلق بالنزاع السوداني في دارفور. أبرز هذه القرارات هو قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1593 الصادر تحت الفصل السابع، والذي أحال الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي عام 2005. إضافةً إلى ذلك، هناك أيضاً قرار الكونغرس الأميركي المسمى "قانون سلام ومحاسبة دارفور" (Darfur Peace and Accountability Act of 2006)، وهو تشريع أميركي أصيل.

بالإضافة إلى ذلك، صدرت العديد من القرارات والبيانات عن مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، ناهيك عن أن السودان يمثل بنداً ثابتاً في اجتماعات ودهاليز مجلس الأمن والسلم الأفريقي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان.

علاوة على كل ما ذُكر، تبرز البعثة السياسية الأممية المعروفة بـ "يونيتامس" (UNITAMS)، والتي تم تفويضها بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2524 الصادر تحت الفصل السادس من الميثاق الأممي في يونيو/حزيران 2020، وذلك لمساعدة السودانيين في تحقيق الانتقال السياسي الديمقراطي والسلام، وهذا ما دفع البعثة الأممية في هذه الأيام إلى الانخراط في تشجيع الحوار بين السودانيين بهدف إيجاد حل لأزمتهم.

تجدر الإشارة أيضاً في هذا السياق إلى أن معظم القرارات الدولية والتعامل الدولي مع الأزمة السودانية ينطلق من موقف ثابت مفاده أن الوضع في السودان يمثل تهديداً للأمن والسلم الإقليمي والدولي، لا سيما في ظل النزاعات والحروب المستمرة في الدول المجاورة له، مثل جنوب السودان وإثيوبيا والصومال وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، فضلاً عن الأوضاع الهشة في منطقة القرن الأفريقي ومنطقة الساحل بشكل عام.

بناءً على ذلك، لا يستغرب أحد الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى مساعدة السودانيين في إيجاد حل لأزمتهم السياسية التي تنذر بانهيار الدولة وتفتيتها، وخاصةً في ظل تصاعد وتيرة الثورة ضد الانقلاب العسكري، والتكلفة الباهظة التي تتكبدها البلاد من أرواح ودماء الشباب اليافعين، وذلك بسبب القمع الذي تمارسه سلطة الانقلاب وإغلاقها آفاق الحل السياسي و"تحصنها" بالسلطة، في محاولة لحماية قيادة الانقلاب من إجراءات المساءلة الوطنية والدولية عبر المحكمة الجنائية الدولية.

هذه الخلفية تؤكد بشكل جليّ أن التداخل بين المحلي والوطني والإقليمي والدولي بات ضرورة ملحة لفك طلاسم الأزمة السودانية، وهذه الظاهرة لازمت الشأن السوداني منذ أكثر من ثلاثة عقود، أي منذ عهد نظام البشير البائد الذي ارتكب انتهاكات جسيمة بحق المواطنين السودانيين، فضلاً عن تورطه في تدخلات سلبية وعشوائية ذات بعد إقليمي ودولي، والتي شكلت انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، الأمر الذي عرّض السودان لعقوبات دولية، مما أدى إلى تكريس عزلة البلاد خلال الحقبة المظلمة لحكم النظام الاستبدادي البائد.

لقد تجمعت على السودان -عقب نجاح ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام البشير في أبريل/نيسان 2019- قوى إقليمية ودولية عديدة سعت إلى احتواء أو استغلال النظام الجديد الذي تشكل بعد سقوط نظام البشير، وذلك بما يتوافق مع مصالحها وأولوياتها الاستراتيجية، ومما لا شك فيه أن هذا التهافت الخارجي على الوضع السوداني يعكس ويجسد التناقضات في المصالح الإقليمية والدولية من جهة، والمصالح الحيوية والاستراتيجية السودانية من جهة أخرى على نحو واضح.

صحيح أن مصالح واستراتيجيات القوى الإقليمية والدولية ليست بالضرورة متطابقة أو متجانسة بشأن السودان، إلا أن معظم المصالح الإقليمية والدولية تتقارب وتتشابه إزاء "سقف" تطلعات وطموحات الشعب السوداني في تحقيق ثورة شاملة وناجحة أو تغيير ثوري جذري.

لذا، يظل هذا الحراك السياسي في مركز الأزمة وعلى هامشها بمثابة التحدي الأكبر الذي يواجه جهود إنجاح أو إفشال المساعي الإقليمية والدولية الرامية إلى المساعدة في حل الأزمة السودانية.

وفي هذا السياق، هناك بعض الأمثلة التي تجسد واقع الصراع والتنافس بين المحاور والأطراف الإقليمية والدولية حول الأزمة السودانية، الأمر الذي انعكس سلباً بدوره على وحدة واستقلالية الأطراف السودانية:

  • إن المحور العربي الثلاثي الذي يتكون من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تبنى مقاربات ومواقف شبه منسقة تجاه الأزمة السودانية وأطرافها في المرحلة التي أعقبت سقوط نظام البشير وتشكيل نظام الشراكة المدنية والعسكرية الذي قام على أنقاضه، وذلك في إطار المقاربة التي يتبناها هذا المحور في المنطقة والعالم. ومع ذلك، ظهرت خلافات وتباينات حقيقية في مقاربة كل دولة من دول هذا المحور فيما يتعلق بحلول الأزمة. فعلى سبيل المثال، تتميز مصر بعلاقة تاريخية عميقة مع السودان ذات أبعاد متعددة، أهمها الجوار الحدودي المباشر، بالإضافة إلى محددات الصراع حول مياه النيل، فضلاً عن الاعتبارات الحيوية المتعلقة بالصراع التاريخي بين الدولة المصرية والدولة الإثيوبية. كل هذه المعطيات والحقائق الاستراتيجية تربط أي مقاربة مصرية للأوضاع في السودان بأمر يتصل بشكل مباشر بالأمن القومي الاستراتيجي لمصر، لذلك غالباً ما يدافع المسؤولون المصريون عن سياساتهم تجاه السودان بالقول إنه "إذا احترق السودان، فستصل الشرارة والشظايا مباشرة إلى أراضينا".

وفي هذا الصدد، يسعى المسؤولون المصريون إلى التمييز بين حساسية وأهمية الدور المصري ودور بعض الدول الإقليمية الأخرى الأقل أهمية المنخرطة في الشأن السوداني، إلا أن الواقع يشير إلى أن المقاربة والمواقف المصرية تنطلق من حساسية مفرطة تجاه الثورات السودانية التي تحمل أجندات الحكم المدني الديمقراطي، الأمر الذي يدفع مصر الرسمية إلى عدم الثقة بالمدنيين المتناحرين، وبالتالي فهي تاريخياً تفضل دعم حكم المؤسسة العسكرية السودانية الرسمية حصراً.

لذلك، ترى العديد من الجهات السودانية والدولية أن مصر تتبنى انقلاب البرهان، إلا أنها مستاءة من ضعفه وعدم حزمه في حسم الأمور.

بطبيعة الحال، هذا الدعم والتبني المصري لقيادة المؤسسة العسكرية لا يشمل قيادة قوات الدعم السريع، فمصر تنظر بعين الحذر والريبة إلى شخصية قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، إلا أن هذا لا يعني أنها لا تتعاون مع القيادات المدنية السودانية من قادة الأحزاب والحركات المسلحة، فهي تربطها علاقات مع القادة السياسيين، وكثيراً ما استضافت هذه القيادات في إطار جهودها لحل الأزمة.

  • من جانب آخر، ترتكز مقاربة دولة الإمارات العربية المتحدة على اعتبارات محاربة حركات الإسلام السياسي والمصالح الاقتصادية وتعزيز نفوذها في منطقة القرن الأفريقي والقارة الأفريقية بشكل عام، بالإضافة إلى الاعتبارات والمتطلبات الجيوإستراتيجية المتعلقة بحربها في اليمن وحاجتها للمقاتلين السودانيين. لذلك، على الرغم من أن الإمارات قد اخترقت النخبة السياسية المدنية، إلا أنها، شأنها شأن مصر، تفضل الحكم العسكري في السودان، وبالتالي تدعم القيادات العسكرية، وخاصةً الفريق أول حميدتي قائد قوات الدعم السريع. أما المملكة العربية السعودية، فأولويتها هي حربها الوجودية في اليمن، والتي تستعين فيها بالجنود السودانيين، هذا بالإضافة إلى اعتبارات المصالح الاقتصادية والنفوذ الإقليمي في المنطقة، الأمر الذي دفع السعودية إلى السير على نفس نهج مصر والإمارات في دعم الجيش. ومع ذلك، يجب ألا نقلل من شأن الضغط والمشاركة الأميركية والأوروبية والدولية التي تطالب هذه الدول بالضغط على البرهان وحميدتي للتراجع عن الانقلاب وإفساح المجال لحكم مدني كامل.
  • في محيط القارة الأفريقية، يلعب الاتحاد الأفريقي دوراً مهماً في حل الأزمة السودانية، فهو المنظمة الإقليمية المختصة والمفوضة بحفظ وصيانة الأمن والسلم الأفريقيين، وقد تجلى ذلك بوضوح في وساطة الاتحاد الأفريقي بين المدنيين والعسكريين وتحقيق الشراكة الهشة بينهما وفقاً للوثيقة الدستورية، والتي صمدت لمدة عامين إلى أن أجهضها البرهان بانقلابه في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. ومع ذلك، هناك انتقادات لدور الاتحاد الأفريقي في الأزمة السودانية، إذ يرى الكثيرون أن مقاربته للأزمة تميل إلى دعم الجيش، ذلك أن هذا الاتحاد يعتبر بمثابة نادٍ يضم بعض الديكتاتوريين من الرؤساء الذين لا يفضلون بالضرورة حكماً مدنياً وديمقراطياً في السودان.
  • من جانب آخر، دخلت إسرائيل على خط الأزمة السودانية، وقد أدخلها الجيش في البداية بهدف تأمين وضعهم في السلطة على افتراض أنها المعبر الآمن إلى الإدارة الأميركية. صحيح أن حكومة حمدوك قد أقامت علاقات مع الجانب الإسرائيلي، إلا أنها كانت محاولة لا تنطلق من أساس استراتيجي أو سياسة خارجية راسخة، لذلك يرى بعض المراقبين أن جهود حكومة حمدوك السابقة كانت في إطار الصراع بين المكونين المدني والعسكري حول إدارة ملف العلاقات الخارجية، هذا بالإضافة إلى اعتبارات إرضاء بعض الأطراف الإقليمية المنخرطة في التطبيع مع إسرائيل. ومع ذلك، فإن "الدولة العبرية" لا تتمتع بنفوذ عميق في السودان، فعلاقتها سطحية ومقتصرة على قيادة فصائل المؤسسة العسكرية.
  • على الصعيد الدولي، بذلت دول الترويكا (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج)، بالإضافة إلى فرنسا، جهوداً كبيرة في دعم الحكومة الانتقالية بقيادة حمدوك، مما ساعد على دمج السودان في النظام المالي والاقتصادي الدولي، واستمر هذا الوضع المتميز حتى انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول. كما أن جهود الأميركيين والأوروبيين ساعدت في الضغط على البرهان لتقليل العنف ضد المتظاهرين المدنيين السلميين، ومما لا شك فيه أن جهود إدارة بايدن ومشاركتها في الأزمة تستحق الثناء، إلا أن الإدارة الأميركية لا تزال تفتقر إلى رؤية استراتيجية موحدة تجاه الأزمة في السودان، إذ تتسم جهودها ومقارباتها بالتشتت بين الكونغرس بشقيه والخارجية والمجتمع الاستخباراتي الأميركي.

ختاماً، لضمان نجاح مبادرة البعثة الأممية بشأن حل الأزمة، لا بد من العمل على الضغط على البرهان لوقف العنف ضد المتظاهرين السلميين، بالإضافة إلى كبح جماح العنف ضد المدنيين في مناطق النزاعات التي تشهد تدهوراً أمنياً مثل حالة دارفور، ومن الضروري كذلك الضغط على البرهان وشركائه للتراجع عن إجراءات الانقلاب.

من ناحية أخرى، فإن توحيد الأطراف السودانية وفقاً لميثاق سياسي ودستوري جديد وإنشاء مركز موحد للقيادة يعتبر خطوة مفتاحية نحو الحل، فتمثيل الأحزاب السياسية والحركات المسلحة يعتبر استحقاقاً مهماً، إلا أن خارطة الفعل الثوري والسياسي قد تغيرت بشكل جذري، لذلك من الضروري أن يتصدر شباب لجان المقاومة وضحايا الحروب من أفراد مجتمعات النازحين واللاجئين والقوى الاجتماعية التي انبثقت من رحم الأزمة جهود وصياغة الحلول، وتعتبر هذه الخطوة أساسية لتحديد مصير نجاح أو فشل الجهود الوطنية والإقليمية والدولية في هذا السياق الذي يشهد تدخلات سياسية داخلية وخارجية مكثفة.

من الأهمية بمكان التركيز على القضايا الكبرى المتعلقة بجذور الأزمة، مثل قضايا العدالة والمحاسبة وتحقيق السلام الشامل والاقتصاد والاستحقاق الانتخابي، وذلك حتى لا تتحول المبادرة أو العملية السياسية الأممية إلى عملية تقاسم للمغانم تعمق وتعقد الأزمة، وعلى غرار ذلك، لا مناص من الضغط على دول الإقليم حتى لا تستمر في تعميق الخلافات بين السودانيين أو تشجيع طموحات العسكر في إجهاض تطلعات السودانيين في الحكم المدني الديمقراطي. ومن المهم أيضاً توحيد جهود المجتمع الإقليمي والدولي في مساعيه التوفيقية، وفوق كل هذا، الإقلاع عن استغلال صراع المحاور في السودان، وذلك من أجل إقامة حكم مدني ديمقراطي حقيقي فيه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة